ماتت «طنط سناء»

بلغنى الخبر فداهمتنى الأحزان!

ماتت «طنط سناء»، ماتت جارتنا الطيبة! ماتت صديقة أمى الأخيرة. جميع صديقات أمى متن تباعا، حتى بدا لى الأمر كأن المدرسة تُخرّج طلابها توطئة لاستقبال صف جديد، وبدا لى الأمر أيضا كأن الأرض يذبل زرعها إيذانا بظهور محصول جديد، أو كرقعة شطرنج مات فيها الملك وتناثر الجنود توطئة لبدء دور جديد. الحياة لا تُولى عناية بالفرد، وكل ما يهمها الجيل الجديد. حقيقة نتجرعها مع فراق الأحباب، وغدا نخلى نحن أيضا مقاعدنا للجيل الجديد.

ماتت «طنط سناء».. رحلت إلى عالم أفضل! استراحت من عالمنا المفعم بالشقاء.. ماتت القديسة التى تطهرت بالمرض عشرين عاما. كلما مررت على بيتنا القديم، وتطلعت إلى الشرفة المظلمة فى الدور الثالث، عدتُ عشرين عاما إلى الوراء. حينما كانت الشرفة تشع بالضوء والأنس والسعادة والهناء. السيدة الارستقراطية الراقية، زوجة الطبيب المشهور ذى الشعر الثلجى، عميد الطب، أشهر أستاذ فى طنطا، يتدافع المرضى إلى عيادته، وتتسابق نساء المجتمع الراقى إلى بيتها! وحين أصعد الدرج إلى شقتها العامرة فى الدور الثالث، أسمع من وراء الباب المغلق ضحكات الأنس والسرور. يترنح الباب من طاقة الدفء الهائلة. حينما كانت «طنط سناء» فى ربيع العمر، لها زوج محب، وأبناء رائعون. لكن لم تحسب حسابا للزمن! لتقلبات الأيام!

ماتت «طنط سناء»، لكنها قبل أن تموت عذّبت قلبى مراراً. كنت أتساءل: بماذا يشعر بيتنا القديم؟ أجمل بيت فى العالم! أتراه يتساءل بدهشة أين ذهب سكانه؟! لماذا اختفوا؟ لماذا رحلوا وتفرقوا؟ هل أساء إليهم فى شىء؟ البيت كما هو، بحديقته الخلفية وشرفته الواسعة! وتلك القبة السماوية فى مكانها، المرصعة بالنجوم. وأمامه نخلتان عاشقتان. تميل إحداهما على الأخرى، وتخطف قبلة من آن لآخر. البيت موجود، والنخل موجود، نحن - فقط - غير موجودين!

ماتت «طنط سناء» وأخذت معها ذكريات طفولتى! دهشتى! فرحتى! اكتشافى للكون. آه أيها البيت القديم، لماذا تلوح دائما فى أحلامى؟ ولماذا أعتبرك بيتى الحقيقى؟ ذلك الذى ولدت فيه، وحفظت كل ركن فى حجراته، ورسمت قلوبا ساذجة على حيطان البلكونة، وسمعت فيه الأغانى، وأدمنت فيه الأمانى، ووقعت فى الحب لأول مرة، ومهما تغيرت البيوت، مهما يمر العمر، يظل البيت هو البيت! يتحول إلى أيقونة، رمز لكل ما أفلت من يدى، شاهد على أيامى، حين كنتُ فى مقتبل العمر أستقبل الحياة.

سقى الله أيامك بالخير يا «طنط سناء»، سقى الله البناية الجميلة التى كنا نسكن فيها! فيها لعبت الكرة ورصدت النجوم وناجيت القمر ووضعت حدود الكون، وصادقت وخاصمت، وأحببت وهجرت، ووصلت وقطعت، كل ذلك فى خيالى.

سقى الله وجهك الصبوح وأنت تزورين أمى. ابنك زميل أخى، بناتك صديقات أختى، وفى غرفهن المغلقة، حيث عالمهن السحرى، لا يكففن السمر وتمشيط شعور العرائس والحديث عن الغد المختبئ خلف غلالة من الأحلام.

تمضى الأيام ونكبر! وتكبر «طنط سناء». فى رحلة العمر لا نفطن إلى أشيائنا الثمينة وهى تختفى بالتدريج، تضيع الدمى والعرائس والمسدس والقطار، تضيع قصاصات الورق والقصص الملونة ومجلات ميكى وكتب الأشعار، كل ما هنالك أن الأبناء كبروا، وصاروا يغادرون المنزل ويستقلون بحياتهم، لو كان هناك مراقبون من الكواكب الأخرى للاحظوا أن مصابيح الغرف تُطفأ بالتدريج، غادرت «طنط سناء» البيت ورحل الأحباب، وغادرت أمى البيت ورحل الأحباب، وكلما مررتُ، جئتُ أو ذهبتُ، نظرت إلى الطابق الثالث، حيث تقع شقة «طنط سناء» مُطفأة الأنوار، أتذكر البيت وهو يشع ضوءاً ودفئاً وأنساً، وبهجة أطفال وضجة أصوات، يوجعنى قلبى على مآل الدنيا، وأهتف من أعماق أعماقى: «سبحان من له الدوام!».
بقلم د. أيمن الجندى 7/ 12/ 2011

ماتت «طنط سناء» 388805_304300442936503_112686935431189_1026452_848229731_n

ماتت «طنط سناء» 388805_304300442936503_112686935431189_1026452_848229731_n

» الرجالة ماتت في 73
» لكل من ماتت صلاته ويريد أن يحييها :
» رجل ماتت زوجته فصنع منها طاوله

ماتت «طنط سناء»

ماتت «طنط سناء» :: تعاليق

ماتت «طنط سناء»

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة