الراعي الأعمى

الراعي الأعمى
فجأة .. قرر الراعي أن يجرب أمراً جديداً في قطيعه ، الذي أرهقه صعوداً وأتعبه هبوطاً من من السهل إلى الجبل ، ومن الوادي إلى الحرجة، قرر الراعي أن يسيطر على هذا القطيع المشاكس بفكرة ذهبية رائعة ، تريحه من عناء الصعود ومشقة الهبوط ، قرر الراعي أن يفقأ أعين القطيع ، ليكون القطيع أعمى .. لا يبصر ؛ فلا يعرف السهل من الجبل ، ولا الوادي من الحرجة ، بذلك يستريح من عناء السعي الدائب خلف هذا القطيع النهم الدائم البحث وراء الكلأ والماء ، ولا يتكلف مؤنة الهش عليه وجلب الأغصان الغضة من أطراف الشجر 0
وبالفعل .. نفذ الراعي خطته .. وأضحى القطيع أعمى .. يموج بعضه في بعض .. يتخبط بعضه في بعض على غير هدى .. وبعد المجهود المضني الذي بذله الراعي خلال عملية
( الفقئ ) ، استظل بظل شجيرة وراح في نوم عميق ، لم تزعجه أصوات قطيعه .. تارة من الألم وأخرى من الجوع ، وثالثة من العطش ، ورابعة تبحث عن وليدها ، وخامسة تنشد النور الذي انطفأ ، وسادسة من الفزع ، وسابعة تعترض ، وثامنة فقدت الأمل ؛ فمدت الأربع كأنها تنتظر الموت ، وعلى جملة هذه الأصوات .. جاء الذئب .. اقترب فاندهش ، القطيع لا يفزع .. اقترب فازدادت دهشته ، القطيع لا يعيره أدنى اهتمام .. ظن أنها خدعة ، قرر أن يتراجع .. لكن الطمع أعماه هو الآخر ، وقفز على أقرب القطيع إليه وطار كأنه جان .. لفظت المسكينة أنفاسها سريعاً ؛ فلم يكن لها أدنى حظ من الدفاع عن نفسها بل كانت فاقدة الرغبة في الحياة ، تناول الذئب وجبة شهية دونما مجهود .. وفي ظل شجيرة اضجع ونام .. وهو يفكر في وجبة شهية أخرى إذا كان الغد ..
استيقظ الراعي وصوت قطيعه يصم الآذان .. كان صوت القطيع المنهك هذه المرة صوت دعاء الموت .. لكن سعادته بفعلته جعلته لا يبالي بكل هذه الأصوات .. ولا يعي معناها .. قرب لها الحشائش .. جلب لها الماء، حتى تتناول وجبتها الأخيرة لهذا اليوم ، ثم يبدأ بها رحلة العودة إلى حظائرها 0
أكل من أكل .. شرب من شرب .. لم يأكل من رفض .. لم يشرب من اعترض ..
والراعي يظن متيقناً أنه قد أحسن صنعاً .
وقبل حلول الظلام قرر الراعي أن يسوق القطيع الأعمى إلى حظيرته ، وبدأ يرميها بصغار الأحجار كما كان يفعل .. فتستجيب ، ويلوح بعصاه كما اعتاد فتفهم المراد ..
ولما لم يتحرك أحد من مكانه .. ذهب تجاه فحل القطيع .. ضربه .. دفعه .. جذبه .. وجهه تلقاء الطريق .. ولا إجابة سوى الأصوات التي تصم الآذان وتقلق من في القبور ..
تعب الراعي .. أجهد .. حاول مرة ومرات ، وفي كل مرة تذهب محاولته سدى .. ويزداد تعبه تعباً .. وارهاقه ارهاقاً .. أضناه الجهد وذهبت محاولاته أدراج الرياح .

عندها أيقن سوء فعله ، وغباء تصرفه ، وفقد أي أمل في انصياع القطيع له
حمل عصاه .. رحل وحيداً.


الراشد